تعوّد كل ليلة على انتظارها، يجلس قبالة الباب، و قد بعث بأذنيه خارج الغرفة الصغيرة، تتجسس على الخطوات الجريئة المتلصصة على سكون الليل.
أصبحت حاسة السمع لدية قوية، و احتكرت حتى وظيفة عينيه، من خلال وقع الأقدام، بات يعرف صاحبها.
خطوات قوية تهز الأركان ... أكيد هذا الأستاذ مصطفى، رجل ضخم بدين يسكن في آخر الرواق، بعد قليل، خطوات ثابتة منتظمة .... أكيد هذا السيد علي، يعمل شرطيا في سلك الأمن، ساد السكون من جديد، يحس كأنه الكائن الوحيد في هذا العالم الواسع، لا حركة، لا صوت، و لا خطوة واحدة... فتعود إليه جواسـيســه متعبة خائبة الرجـــاء، فيلتفت إلى صورتها المعلقة على الجدار فيبتسم معها، ثم يعود ليكشر في وجهها: لمــاذا تأخرت ؟ ... و سرعان ما تفـلــت الجـواسـيــس مـنـه مرة أخرى ... يسمع وقع أقدام .... تزيد سرعتها مع كل خطوة، يحس و كأنها تمشي على ساحة قلبه الصغير، خـطــوات متـنــاغـمــة كألحان الشتاء الحزينة يعزفها كعبها العالي على الأرضية الخشبية... اختبأ خلف الباب متأهبا لمفاجأتها،
فتحت هي الباب بلهفة و كأنها تفتح بوابة على روض أسطوري، دخلت و الشوق في عينيها، فاجأها من خلفها، ثم غاب يركض بعيدا عنها و اختبأ في زاوية مكشوفة، كل ليلة يفاجئها في نفس المكان و بنفس الطريقة، تعودت على ذلك، فأصبحت حركاته مكشوفة، و مع هذا كان كل مرة ينجح في مفاجأتها، بحركة رياضية منها تخلصت من الكعب العالي و ركضت بدورها وراءه : أين ستختبئ مني أيها الشقي، و سرعان ما وجدته، فأطلق صرخة عالية ممزوجة بضحكة ملائكية محاولا الهرب و لكن إلى أين ؟ أطبقت عليه بين ذراعيها، و ضمته إليها و تمنت أن يتنازل الزمان عن قسوته قليلا فيتوقف عند هذه اللحظة لساعات،
أما هو سحب نفسا عميقا من صدرها ... كانت الرائحة المميزة التي تميزها عن سائر النساء، رائحة بها مزيج من ثلاث روائح، عطر الياسمين، رائحة السجائر الخانقة، و رائحة غريبة لم يستطع تمييزها طوال الأربع سنوات، كانت تبدو له أحيانا كرائحة الكراميل المحروق، كرائحة طماطم فاسدة أو كرائحة مربى العنب ... و لكنها كانت تميزها عن سائر نساء العالم ... إنها رائحة أمه.
- لماذا تأخرت ماما ؟
- كان لدي الكثير من العمل، لكني سأعوض عليك ذلك، أعدك .... هل تناولت عشاءك ؟
- لا ... كنت أنتظرك
- يا إلهي...... انتظرت كل هذا الوقت، أصبحت لا تسمع الكلام إذا
- أحب أن نأكل سويا
- حسنا سأدخل لأستحم، بعدها نتناول عشاءنا
دخلت الحمام و بقي هو خارجه، أسند ظهره عل الباب و احتضن ركبتيه المختبئتين تحت بيجامة مزركشة بمجموعة من رؤوس القطط ، و فجأة غابت جواسيسه من جديد إلى داخل غرفة الحمام و عادت إليه بالخبر اليقين : إنها تبكي بحنين، تبكي بكاءا مكظوما كشفت سره شهقاتها اللاإرادية..
- ماما ... هل أنت تبكين ؟
- لا .......
- لكني أسمع صوت بكاءك
و قد تأهب وجهه الملائكي للبكاء
- لا يا حبيبي ... هي فقط ..... أنا ..... أقصد إنها رغوة الصابون اللعينة دخلت عيناي
- إشطفيها بالماء البارد
- حسنا ... شكرا على المساعدة
و بعد لحظات خرجت ... كانت عيناها حمراء متورمة من أثر البكاء المخنوق، فابتسمت إليه و عانقته، تناولا الطعام بنهم كقطين جائعين، ثم ركضا إلى سريرهما المشترك، و تكور في بطنها، كجنين في آخر فصول رحلته في عالمه الداخلي، تشابكت ذراعاهما، و غزا شعرة الأسود شعرها المصبوغ، كانت تنظر إليه، و تلمس بأناملها تلك الخصلات التي ورثها عنها، شعرها الأسود الحريري قبل أن تطمسه باللون الأشقر ..... لماذا ؟ صبغته مجبرة لأن وظيفتها تتطلب ذلك، لأن الزبائن يفضلون الشقراوات ........
لأنها بكل بساطة ... كانت تعمل ساقية بملهى ليلي
هل علمتم الآن ... سر الرائحة الثالثة من تركيبة عطرها المميز.................. الخمر
كانت تعمل ساقية على بار في ملهى ليلي، لم يكن من مخططات حياتها، لكن لم تكن لديها مؤهلات تمكنها من معاركة الحياة كغيرها من نساء المجتمع الفاضـل، في زمن تعود على تأليف ملحمات درامية تماما كملحمتها هي و ابنها الصغير، وحيد ، الذي ينبض قلبه بين أضلعها فيدفعها للاستمرار.
حتى هذه الوظيفة الكريهة أصبحت تتملص منها، بعد أن طلب منها مالك الملهى أن توسع نشاطها من مجرد ساقية على البار إلى نشاطات أخرى : لما لا تعملين كراقصة؟ هذا أفضل من عملك كساقية، إذ ستربحين الكثير من المال، أضعاف أضعاف ما تتقاضينه الآن. ......... يا لها من ترقية !!!
كان هذا الموشح يتكرر كل ليلة على مسامعها إن لم يكن من المالك، كان من رفيقاتها اللواتي احتكرن حلبة الرقص بين أحضان السكارى...
السكارى ...... عفوا ... أقصد عشاق الأنس و الفرفشة كما كانوا يطلقون على أنفسهم، هؤلاء كانت قصصهم مختلفة، تماما كاختلاف جنسياتهم..... كاختلاف مهنهم ...... كاختلاف أعمارهم، ولكن سبب الشرب كان موحدا......... النسيان.
كانت تملأ كؤوسهم ملئ قلبها المتضخم من الفراغ، ملئ عالمها المسكون بالرفض، ملئ حنينها للماضي المختصر.
ثم أرسلت نظرات متسابقة إلى حلبة الرقص، تبحث عنها ....أين هي ؟... روعة... فتاة في التاسعة عشر من عمرها، الراقصة رقم واحد على الحلبة، رغم صغر سنها، إلا أنها احتكرت كل القلوب الثملة تحت وطأة قدميها الصغيرتين .
روعة .... الفتاة التي اختصرت رحلتها في ثلاث محطات ... كانت أولها مقاعد الدراسة، لتنتقل إلى المحطة الثانية ... أحضان ذئب أدمي، لتجد نفسها تقف على المحطة الثالثة، محطة اللاعودة، بعد أن تبرأ منها القريب قبل البعيد، فتجد نفسها محاطة بآلاف الأحضان ... الأحضان السخية فقط تحت وطأة السكر، و ما أن تستفيق، تلقي بها بعيدا خارج مملكتها المقدسة، مخافة أن تدنسها.
جابت سمية الصالة بنظرها تبحث عنها، لا تعلم لما تحس بها و كأنها ابنتها الصغيرة، رغم فارق السن الضئيل بينهما، سبع سنوات فقط، إلى أن فاجأها وجه مالك الملهى كريح السموم في غير موعدها: أريدك أن تنزلي وسط الزبائن لتسدي مكان روعة ..... لأنها متوعكة.
متوعكة .... كلمة مطمئنة، مجرد تعب عابر، في حين أن روعة كانت تنتقل إلى محطتها الأخيرة قبل الأوان بوقت طويل.
آخر شيء قد تتنازل عنه سمية هو شرفها، كونها تعمل في ملهى ليلي، فهذا لا يعني أن تبيع جسدها للذئاب تبث فيها أنيابها المسمومة، و أمام رفضها، خيرها بين خيارين لا ثـــالـث لهـمــا، إمــا الرقص على ألحان المزمار، أو الرقص على تغاريد الجوع، فنظرت إليه بعيون واثقة و أجابته : روعة لم تكن ترقص من أجل الجوع، لم تكن ترتمي بين الأحضان الفارغة من أجل الشهوة و المتعة، كانت تفعل ذلك، فقط، لأنه لم يكن لديها من تعود إليه، بعد أن يعلن تمزق الوتر على انتهاء اللحن.....
أما أنا، فلدي من أعود إليه كل ليلة، و لو متأخرة، لدي ولد صغير ينتظر عودتي بفارغ الصبر، و لا ينام إلا في حضني، الحضن الذي جئت تساومني فيه بقطعة خبز وسخة، هذا الحضن ليس ملكي، كيف تريدني أن أقحم فيه شياطينك ليزاحموا ملاكي الوحيد؟
أيعقل !!!!!! أن يسكن ملاك طاهر بين سرب من شياطين الإنس ؟ أجبني
شكرا على عرضك السخي، و شكرا لأنك تحملتني طيلة السنوات الأربع ... يا سيدي
بهذا ختمت سمية كلامها و هي تغادر الملهى، و عند المخرج استوقفتها إحدى الممثلات الثانوية في قصتنا هذه، كان يبدو عليها الذهول و كأنها عادت توها من بين الأموات: " سمية ...... إنها روعة، لقد لفظت أنفاسها الأخيرة منذ لحظات، بسبب جرعة زائدة ".
انتهى الفصل ........... معلنا نزول الستار على قصة من قصص إحدى بطلات هذا المجتمع الفاضل، إحتارت سمية، هل تبكي على روعة؟ أم تفرح لأجلها، روعة التي كانت ترقص حتى آخر نفس، مؤدية بروفات العرض الأخير معلنة انهزام الألم بداخلها ... الألم المتمرد الذي لا يغادر الجسد إلا بمعية الروح.
تنهدت بعمق ثم استسلمت للراحة المؤقتة، غدا يوم حافل، الجمعة، اليوم الذي اعتادت أن تأخذ وحيد لرؤية والده، و ماذا بعد الجمعة؟
و ها قد جاء الصباح يجر خلفه أحزان و أفراح الليلة الماضية على نفس البساط، أرسلت الشمس خيطي شعاع رفيعين، كدبلوماسيين يتفاوضان مع أجفان سمية الثقيلتين، على تسليم اللاجئ من ظلم المجتمع و الزمان، هذا اللاجئ الذي يلتهم الآلام و الأحزان و لو لحين ...... النوم.
فتفتح سمية عينيها ببطء شديد وأول شيء تقع عليه نظراتها، هو نفسه أخر ما أطبقتها عليه ... وجه إبنها الملائكي، فتبتسم.
اليوم بالتحديــد ينهـضــان بــاكــرا عـلـى غـيـر عادتهما، يتناولان إفطارهما تحت حركات مشاغبة من دغدغات و قرصات و قبلات طائرة في الهواء، بعدها تتوجه سمية إلى دولاب الملابس تنتقي لملاكها أجمل بذلة، ليقابل بها والده، تضعها على السرير : هيا أيها البطل، اليوم سترتدي ملابسك دون مساعدتي.
فيركض هو و الحماس يكسوه، لطالما تحايل عليها أن تدعه يرتدي ملابسه بمفرده، فترفض.
أما هي فتفتح جهة الدولاب السرية التي لا يقترب منها سواها، ها هي تتردد قبل فتحها،
لكنها تحن إليه، فكلما فتحت هذه الجهة من الدولاب، تجده أمامها ينظر إليها بعينيه التي أسرتها من أول نظرة.
فتفتحه لتفتح نافدة على الماضي الأليم، لتطل على جراحها التي لم تندمل، و مع هذا تفتحه بكل شجاعة ...
فتجده واقفا أمامها .... زي المحاماة الخاص به، و حقيبته البنية الكبيرة، لا زالت تحوي بداخلها بعض مسودات و مذكرات و طعون في الحكم... و قلم أزرق و آخر أحمر، هذا كل ما تركه لها قبل أن يخلف بوعده، فيرحل عنها و يتركها وحيدة تصارع بيدين مجردتين، تتحسس القماش الأسود سواد أيامها من دونه، ثم تتحسس الحقيبة المثقلة بهموم الناس كقلبها المثقل من الأحزان المتسلسلة... و إذا بصوت يذيب الصقيع عن القلب العليل : ماما.
فالتفت عنه إليه، عن حبيب إلى حبيب، نفس النظرات، نفس الملامح... ثم انتبهت إلى ملامح ملاكها، إنه على وشك البكاء : ما بك حبيبي ؟
فيجيبها و قد تهيأت فرقته لعزف سانفونية البكاء الملائكي : أنظري ماما، لا أعرف كيف أربط الحذاء.
فتنفجر في وجهه ضحكا : و تقول لي أنك أصبحت رجلا !!!! ، تعال أيها الشقي سأعلمك كيف تربطها.
فيبتسمان و يتبادلان حركات استفزازية بلسانهما الورديين،
الآن أصبحا جاهزين للرحيل، للقاء الحبيب المشترك.
و ما هي إلا نصف ساعة ليجدا نفسيهما أمام بوابة المدخل الكبيرة، كانت مفتوحة على مصراعيها، دخلت سمية تمسك بيده بخطوات مدروسة، و ما إن اجتازت عتبة البوابة حتى انفلتت يده من يدها و انطلق يعدو بخطواته الصغيرة مسرعا يشق وجهه الصغير المسافة التي حاولت أن تحول بينه و بين والده، لكن هيهات أن تمنعه، كان شعره يرفرف في السماء كراية النصر معلنة عن اقتحام القلعة المنيعة.
أما هي، وقفت بعيدا تنظر إليهما، لم تتجرأ على التقدم أكثر، لطالما كانت بعيدة، أو بالأحرى مبعدة، كل شيء كان ضد اقترابها منه، كانت الفروقات بينهما كثيرة، إسم العائلة المرموق، شجرة الأصل العريقة، الثروة، الشهادات العليا، كل هذا ضاعت بينهم سمية الفتاة الفقيرة، اليتيمة، التي لم يتعد تعليمها الصفوف الثانوية، رفضت العائلة هذا الزواج الغير متكافئ، و كل العالم صرخ منددا بإجتماع قلبيهما تحت سقف واحد ... أسمى سقف قد يجمع بين حبيبين، الزواج، لكنه لم يبال بأحد، كان يحبها بجنون، باع كل شيء من أجل حبه لها، وقف في وجه العالم، و لكنه ............ لم يستطع الوقوف في وجه الموت، الموت الذي انتزعه من بين ذراعيها، بسبب حادث مرور.
لا زالت تتذكر تلك الليلة المشئومة، بعد سبعة أشهر فقط من زواجهما ، عائلته التي لم تستطع منعه عنها و هو حي، منعته اليوم وهو ميت، منعتها من استسلام جثته، صرخت بصوت صامت : لماذا ؟
جلست في رواق المستشفى البارد وحيدة من دون أن تمتد لها يد حانية، لتكفف دموعها النازفة من قلبها، لم يسمحوا لها والديه برؤيته أو حتى الاقتراب منه. فاكتفت باستلام أغراضه من أمانة المستشفى .... زي المحاماة و حقيبته البنية و فقط.
ركض وحيد صوب والده، ... عفوا أقصد قبر والده، جثا على ركبتيه أمامه، وضع يده على القبر، ثم قربها من فمه و قبلها، في اعتقاده أن القبلة ستصل إليه ........ تفكير أطفال، ثم أطلق العنان للسانه ككل مرة، يحكي له كل ما فعله طوال هذا الأسبوع، تارة مبتسما و تارة أخرى متجهما، أخبره أن غدا هو أول يوم له في المدرسة، و أن أمه قد اشترت له كل المستلزمات، كتب، كراريس و أقلام ملونة، عجين تشكيلي، لم ينس شيئا واحدا، و بين الحين و الآخر يلتفت إليها و يبعث لها قبلة طائرة في الهواء، فتلتقطها هي بيدها و تضعها على فمها، كانت تنظر إليه بحنان و شوق ...
لماذا لا تستطيع الاقتراب منه؟ لا تزال تحس أنها غير جديرة به، حتى و هو تحت التراب.
أحبته إلى درجة جعلتها تكره نفسها، أحبته إلى درجة جعلتها غير قادرة على مسامحته ... لأنه مات.
ثم أومأت لوحيد بحركة من رأسها المثقل بالذكريات المؤلمة أنه حان وقت الوداع، فقبل يده من جديد ثم طبعها على قبر والده، و رجع يركض إليها كفراشة ربيع الزمن الجميل، أمسك بيدها و همّا بالرحيل، و بعد خطوتين سحب يده بسرعة مفاجأة و عاد راكضا إلى والده، انحنى عليه وشوش له ثم عاد راكضا من جديد إليها، فسألته : لماذا عدت هناك ؟
- نسيت أن أخبره شيئا مهما، فعدت و أخبرته
- و ما هو الشيء المهم يا عبقري ؟
- أخبرته أنك تحتفظين لي بلباس محاماة و محفظة كبيرة، إلى حين أن أكبر و أصبح محاميا.
و هنا هربت دمعتان من عينيها، أول دمعتا فرح، منذ أن رحل عنها توأم روحها، و سألت نفسها : أيمكن أن تعود إلي يوما ما ؟
................... إنتهى
المرجو الرد على هذه القصة